كلمات

كل يوم أراني ألتحف التراب ، فأقتني بؤسي كما هي الأشياء صامتة ..

الأحد، 30 سبتمبر 2012

ظمئٌ



ظمئٌ

في صغره كان يعاني من الشح العاطفي ، تسير به الدنيا إلى حيث لا يعلم ، يقلب أفكاره في كل اتجاه ، يمارس أنواع الأشياء جميلةً كانت أم قبيحة ، إيمانيةً كانت أم شيطانية .. بلغ الثامنة عشر ربيعاً ، وضعته الأقدار بين يديه ، توسم فيه الحياة ، ونبضها ، قرأ في عينيه حكاية الإنسان ، تنفس فيه طهر الروح ، ينتظر المساء بشغفٍ يأتي ليوجه طرفه ناحية النور ، يجلس بقربه ، يستمع لقصصه التي لا تخلو من الثقافة ، والفكاهة ، يحس بعقله نشيطاً في حضوره ، يأسره فكره الواعي ، سأله ذات لقاء : من أين لك هذه القصص ؟ . أجابه بابتسامةٍ من حنان : من الكتب ، وصمت .. شرد بذهنه هنيئةً ، استحضر مكتبة والده التي لا يعرف عنها شيئاً سوى شكلها ، وألوانها .. قطع عليه شروده ، وهو يعطيه روايةً أدبية ، وطلب منه قرائتها ، تناولها بكلتا يديه كأنما يعانق حلماً جميلاً فر منه ذات واقع أليم . خرج وفي طريقه راجعاً إلى حجرته التي تحتضنه بعيداً عن ضوضاء القرية ، وعشوائية الأسرة ، استلقى على فراشه ، وأخذ يجول بين صفحات الرواية ، يحدث نفسه : يا ترى أيكون هذا العالم جميلاً ؟ ! ، هل سأجد فيه ذاتي ، وغايتي ؟ ! ، أحس بشوقٍ لأقتحم هذا العالم ، ولكن خائف ، لما أخاف ، لأجرب فلن أخسر شيئاً .. شدته الرواية ، قرأ ، وقرأ ، لم يشعر بأن الدقائق تمضي مهرولةً تلغي الزمان ، والمكان ، استيقظ من هيامه ، فقد أعلن المؤذن بصوته الملكوتي صلاة الفجر ، وضع الرواية جانباً ، وذهب ليسبغ وضوءه . تأمل عينيه في المرآة ، يحاكي ذاته صامتاً ، لتكن نسمات هذا الصباح بداية حياةٍ جديدةٍ لي .. انتهى من صلاته ، وبينما هو جالسٌ على سجادته رفع كفيه يناجي ربه ، ودمع مقلتيه يزرع وجنتيه أملاً .. أطفئ النور ، وضع رأسه فوق وسادته ، يقلب جسده ذات اليمين ، وذات الشمال ، أراد النوم يأتي ، ولكن دون جدوى ، فإن الرواية قد استحوذت على كيانه ، لديه رغبةٌ جارفةٌ ليكملها ، فهي تلامس شغاف حياته كأنما كاتبها يتحدث عنه ، عن معاناته ، عن ظمئه للعاطفة التي فقدها ، عن غيابه في حضوره ، عن أمله في خيبته ، عن حلمه في واقعه ، عن موهبته في الكتابة .. أشعل النور ، وأخذ يقرأ ، ويقرأ .. وضع يده على وجنتيه يداعب ما تبقى من قطرات دمعٍ جففته الكلمات ، وهو يردد آخر جملةٍ في الرواية : فقط كن متفائلاً ، واكتشف ما بداخلك لتكن جميلاً ..

بقلم | جمال الناصر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق