كلمات

كل يوم أراني ألتحف التراب ، فأقتني بؤسي كما هي الأشياء صامتة ..

الجمعة، 21 أكتوبر 2011

ولدي


ولدي

وصل " فادي " إلى منزل صديقه محمد ، يحمل بين ذراعيه بعض أوراق ..
استقبله بحرارة أخوية ..
_ أهلاً .
_  أهلاً بك .
بزغت الألحان البنفسجية عبر الشفق الأحمر تنقش الذكريات .
كلما تجلت النظرة المتعمقة للأحداث نرى ذلك الطيف الحزين ذو الوجنتين الناعستين ، رموشها تروي قصة " فادي " التي عرفت تفاصيلها كل القرية .
عندما نبحروا في كلمة " إنسان " تتقاذفنا التفاسير من هنا وهناك . هذه الكلمة التي فقدت معناها وسط متاهات واقعنا المعاصر المسمى بعصر التكنولوجيا والبزنز .
واقع لا إنساني ،  كل يهرول فاتحاً باعه بشراسة يلتهم الأخضر واليابس حتى لو كان ذلك على حساب كرامة الآخرين .
إنه نموذج استعراضي يحكي للأجيال بصورة مبسطة الظلم الذي جرى عليه .
واجه الأمرين بانفصال والديه ، إنه وحيد أمه .
تجلد في دراسته إلى أن بلغ المرحلة الجامعية متوكلاً على الله ثم ما قامت به أمه من جهود تحسب لها كأم مثالية ، مضحية من الطراز الأول .
في اللحظات الأخيرة تحقق الحلم ومنى الله على هذه الأسرة المسكينة بنجاح ابنها بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف .
غردت العصافير فوق الشجرة المطلة على الشرفة الموازية لغرفتها تقاسمها الفرحة .
دفعت الشباك بقوة أحست من خلاله أن الحياة قد ولدت من جديد .
تدحرجت الدموع زغاريد من الريحان .
وقف متأملاً ... .
كيف يلقي نظراته بوجه تلك الأم الحزينة ،  فجأة :
فتح الباب ... .
انقضت عليه تحتضنه بولع إلهي .
_ حبيبي ، سنادي ، ألف مبروك .
استغرب متسائلاً :
_ من الذي أخبرك يا أماه ؟ .
_ لا أحد ، إنما هو قلبي ، تعال إلى صدري يا ولدي ، الحمد لله الذي عوض صبري خيراً بك .
_ الحمد لله ، أنت الخير والبركة ، هذا بفضل رعايتك لي .
تشربت كلماته بعبرة مصبوغة بالألم وهي تبتسم .
قدم أوراقه إلى إدارة التربية والتعليم فأخبروه بموعد استلام الوظيفة .
خرج والفرحة مخنوقة بشفتيه ناظراً إلى السماء بعينين نصفها
شحوب .
_ أينك أبي ..؟
بعد شهر جلس في المقعد المخصص له بمدرسة دمشق الثانوية وباشر عمله بمهنة هي من أشرف المهن .
تعرف على الزملاء والزميلات بخجل ظاهره الفرح وباطنه لهيب الدقائق .
بين همهمات التبريك والضحك رجع محدقاً في اللاشيء مقعراً حاجبيه كعادته ،  نوبات تأتي بين حين والحين بلا إرادة منه .
هذه الذبذبات الانفعالية تنهش بجسمه كل جميل فأصبح يعالجها بالإنكباب على العمل وتنشيط ذهنه بالتفكير خصوصاً إنه كاتب يقضي جل وقته في تأليف القصائد وبعض الألوان الأدبية الأخرى .
لم يشعر بها رغم هذه العلامات المشفرة التي تبعثها .
ذات هزيع من اللحظة اكتسب فادي محبة زملائه و زميلاته .
وئام تلك الفتاة البشوشة تنجذب إليه بقوة غرامية ،  تسبح عبر وجنتيه الساحرتين بهيام جاهلي .
حملت قدميها بأريحية خضراء الجسد .
_   أستاذ فادي :
_ إننا قد عزمنا الذهاب برحلة إلى اللاذقية وأنت مدعو ،  ما رأيك .؟
_ آسف لا أستطيع .
_ عذراً  لماذا .؟
_ إنها الظروف .
_ حسناً ربما يكون هذا تطفلاً ولكن هل لي معرفتها طبعاً إذا لم يكن لديك مانع .
_ العفو أستاذة وئام لا أستطيع .
    تركته بخفقات مرتجفة .
تسمر في مكانه معاتباً يلوم نفسه .
_ آه  لقد قسوت عليها بغير ذنب الويل لي .
أحس بشغف عارم يجتاح داخله القرمزي ، وئام  تشغل تفكيره ..
بعد وجبة الإفطار توجه مبكراً إلى المدرسة عله يلاقيها فينقض على الكلمات ينتزع من شفتيها أحلى الأنغام فيقدمها صلاة في محرابها الباكي .
تسمر في مكانه عندما أخبره الأستاذ ناجي بأنها لم تأتي إلى المدرسة اليوم وذلك بسب وعكة صحية ألمت بها ..
حدق هناك خلف الشجرة يستمد من جمالها الإصرار وفعلاً قرر زيارتها في منزلها مهما تكن النتائج ..
طُرق الباب بأنامل خجولة ، أشرقت امرأة عجوز .
_ السلام عليكم .
_ عليكم السلام .
_ كيف الحال عمة .
_ الحمد لله يا ولدي .
_ هل الأستاذة وئام موجودة .
_ نعم تفضل .
رفح خطواته يتأمل بخشوع ، إنه منزل من الطراز القديم موحش كأنه مرتع تسكنه الخفافيش ، خيوط من الظلام .
وقعت شظايا النظرات ، أشارت بإصبعها .
_ اقترب أستاذ فادي ، أهلاً وسهلا .
_ هل أنت بخير ؟
_ الحمد لله ، الآن فقط صرت بخير .
غفا متردداً ، كل الحروف تجمدت عبر شفتيه .
كوثر ، هيام ،  يسطر الألحان ، انبرى يحدق في شمعدان عينيها كاتباً.

مشكلة
مشكلتي
أنك حبي
حياتي
بعض كأسي
معتقة الشذى
لمي
زجاج القلب من قلبي

مشكلتي
بحر
مزدحم الألغاز
وأنا بين الماء أداعب نهدك كل مساء

مشكلتي
أني في الحب كما الطفل
ينمو
بين الثدي
ينمو
بين الأحضان
تمحورت ، تألقت طرباً ، مزيج من دقات الهوى .
أقبل العروسان تزفهم زغاريد القرية .
نعمة ، روح مشرقة بأسارير إيمانية تناجي الله .
الكل ينظر إلى أم فادي بذهول مفعم بالفرحة .
إن الله عوضها خيراً على صبرها ، قاتل الله زوجها ، الظالم ، الجبان ، لم يكفيه طلاقها بل سلب كل أموالها ورماها ترتع في كوخ من الألم والحسرة .
أحبت عمتها حباً تملكها مما رسم البهجة بثغر زوجها .
مرت الأيام تزرع في ترابها " الحب " .
كانت وئام من المدينة لذا لم تسمع بما حدث .
كلما سألته عن سبب شروده المتكرر احمر وجهه فتهرب متظاهرة بالإنشغال .
خرجت من غرفتها حانية الرأس تشير إلى وئام .
_ حبيبتي إن في عينيك سؤالاً يداهمك ، أليس كذلك ؟
_ أجل عمتي .
_ اتبعيني .
_ حسناً .
كنا أسرة متفاهمة تعلوها الأريحية ، الحب ، التعاون ، ومما زاد نشوتنا للحياة هو فادي فقد رزقنا الله به بعد صبر طويل ، حتى ...
_ حتى ماذا عمتي ؟.
تناولت نفساً عميقاً ذو دخان قاتم من الوجع .
_ توفى والدي فجأة وترك لي إرثاً كبيراً ، إنه يملك معظم أراضي القرية ، بعدها صرت وحيدة لا أملك في الدنيا إلا زوجي وولدي فقررت كتابة كل شيء باسم زوجي ليدير الأملاك لأني لا أعرف شيئاً عن التجارة .
تغير ذات ليلة وضحاها ، حاولت معرفة السبب وفك تلك الطلاسم الغامضة حينها داهمني الخبر فقد تزوج من ابنة أحد التجار في المدينة ، سقط فادي من يدي على الأرض صارخاً فصرخت .
أخذ كل شيء بلا رحمة ولا إنسانية فعقدت العزم على تربية فادي راكلة حزني وهمي وراء ظهري متوكلة على الله .
وئام تنظر بدهشة ، جسمها يرتعد ... .
_ عبر ليلة مظلمة ، موحشة ، دق الباب فهرعت ... ، جاء يسرق فلذة كبدي ، أملي في الحياة مانعت فإذا به يقذفني بعيداً برجله .
دخل رجل غريب ، ملامحه قبيحة ، حدثه بكلمات لا أكاد أسمعها ثم رمقني بشراسة شهوية وانقض علي و... .
قضبت حاجبيها مستغربة ، دمعها يجري ... .
_ هاهاها ، وا ماذا ؟
_ اغتصبني ، هاهاها .
_ الله اكبر ، الله اكبر ، لعنه الله ، لعنه الله .
_ حبيبتي ، فادي كان مختبئاً وقد رأى كل شيئ .
_ ماذا ؟!
_ أجل ، ألا ترينه يشرد أحياناً ووجهه يحمر .
_ أجل ، ولا أعرف السبب ؟
_ إنه يتذكر فتمر الصورة بخياله بين الحين والحين  كابوساً لا يتركه .
ذهبت وئام مثقلة بالجراح ، تسبح في اللاشعور ، تمازج الواقع والخيال بعقلها وهي تتمتم : هل يعقل هذا ؟
وصل إلى المستشفى يحمله الأمل  فوجد أمه واقفةً عند باب غرفة العمليات .
-        ها أمي ما هي الأخبار ؟ .
-        إن شاء الله خير يا ولدي .
-        خرج الدكتور فأسرع نحوه متسائلا : بشر يا دكتور
-        طأطأ و جنتيه ، خفق فؤاده .
-        لقد رزقت طفلا جميلا .
-        الحمد لله و لكن أخبرني عن زوجتي .
-        البقية قي حياتك .
-        تقعر في مكانه من شدة الصدمة و دموعه تنهمر كشلال لا يهدأ ، بكاء في السكون .
وضع يده فوق خدها ينادي :
-        حبيبتي إلى أين تذهبين و تتركيني و حدي .
ربت الدكتور على كتفيه مواسيا .
-        هيا بنا يا فادي .
خرج معه فأعطاه رسالة .
-        ما هذا ؟! .
-        رسالة كتبتها بحبر من الأسى و طلبت مني تسليمها لك بعد الولادة ، يبدو أنها أحست بدنو الأجل يرحمها الله .
عند الشجرة بدأ يقرأ .
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى من كان لي زوجاً وفياً يحبني كما أحبه ، يا من قضيت أجمل أيام حياتي معه ، إليك حبيبي  هذه الكلمات من قلب أتعبه ما رأى  وسمع .
كنت أفكر في شرودك الدائم ، تأخذني الآهات من مستنقع إلى مستنقع إلى أن جاءت اللحظة فعرفت كل شيء ، أوصيك بنفسك و بأمك خيراً خيراً وإذا رزقنا الله ولداً فأتمنى أن تربيه تربية صالحة
فيها كل معاني الجمال الإنساني فهذه نبضات قلبي تستأنس بالموت و القدوم على رب كريم .
ملاحظة : أحبك .
ثلاث سنوات هي أحمد ، أجلسه بحضنه يتأمل صورتها ، أحمد تلمسها بيديه ، حمل الصورة  و علقها مكانها ، أمسك يده ، ذهبا يتمشيان في هنيئة ، وطأت الخطوات الشاطئ ، جلس واضعاً أحمد على فخذه الأيمن مداعباً خديه بحنان كستنائي و هو ينظر إلى الشفق ، ترآت ملامحها بثوب ملائكي و هي تبتسم فيبادرها بابتسامة عريضة متفوهاً :
ولدي










ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق