مِن الْمَاء كَلِمَات
وَمَا
زَال يَمْشِي عَلَى قَدَمَيْه ، نَظَر إِلَى سَاعَتَه فَوَجَدَهَا تُشِيْر إِلَى
أَوَّل الْوَقْت ، تَوَقَّف مُصَافِحا
مَوَدَّعَا زُمَيْلَة الْأُسْتَاذ عَبْد الْلَّه . وَصَل الْأُسْتَاذ إِلَى
مَدْرَسَتِه وَعَلَى الْفَوْر تَوَجُّه إِلَى الْطَّابُور الصَّبَّاحِي و بَعْد
انْتِهَاء " أَحْمَد " طَالِب الْصَّف الْثَّالِث ثَانَوِي مِن
فَقَرَتْه أَمْسِك بِالْمَيْكْرُفُون وَيَدِه الْخَضْرَاء تُعَانِق الْكَلِمَات
الْمَائِيَّة فِي نَشْوَة الْوَلَهَان . مَرَّت الْدَّقَائِق الْمُرْتَجِفَة وَهِي
تَنْظُر إِلَى الْأُسْتَاذ بِدَهْشَة عَارِمَة لَمَا جَرَى وَبَقَى يُغَازِل
الْأَرْوَاق بِحَنَان أَبَوَي ، يَتَأَمَّل الْنَّظَرَات الْحَزِيِنَة
الْمُرْتَسِمَة عَلَى وُجُوْه الْطُّلاب وَالزُّمَلاء وَهُم يَتَجَرَّعُوْن
الْحَسْرَة لَوْعَة وَأَلَما . قَد مَضَى عَلَى اعْتِقَال الْأُسْتَاذ مَا
يُقَارِب الْشَّهْرَيْن ، بَيْنَمَا تَوَقَّفَت عَقَارِب الْسَّاعَة الَّتِي
تَحْتَضِنُهَا غُرْفَتِه الْسَّاكِنَة فِي الْمَنْزِل الَّذِي فَقَدَه وَكَذَا
الْأَسِرَّة الَّتِي تَحْمِل فِي أَعْمَاقِهَا شَغَف جَارِف كَجَذْوَة تِلْك
الْعَيْنَيْن الْوَاسِعَتَيْن لِلْأَب الْحَانِي وَالْمُعَلِّم الْرَّبَّانِي ،
صَاحِب الْفِكْر الْحُر وَالْقَلَم الَّذِي يَنْقُش الْمُسْتَقْبَل الْوَضَّاء
فَوْق الْرِّمَال الْنَّارِيَّة . جَلَس الْمُحَقِّق أَمَامَه سَائِلَا إِيَّاه
مُعَنِّفا : ـــ مَاذَا تَقْصِد بِهَذِه الْعِبَارَة ؟ أَجَابَه وَعَلَامَات
الإِسْتِغُرَاب تَنْبَعِث مِن مُحَيَّاه : ـــ سَيِّدِي إِنَّهَا تَعْنِي ،
الْشِّرْذِمَة الْقَذِرَة وَالْحُثَالَة الْبَغِيضَة مِن الْيَهُوْد
الْمُتَسَلِّطِين عَلَى شَعْبِنَا الْفِلِسْطِيْنِي . غَضِب الْمُحَقِّق مِن
تَبْرِيْرُه، أُنْزِل قَبْضَتُه كَالْبَرْق الْخَاطِف وَصَفَعَه. فَأَوْقَعَه
أَرْضَا وَالْدِّمَاء تَسِيْل مِن ثَغْرِه. ـــ بَل أَنْت تَكْذِب، إِنَّمَا
تَقْصِد كَذَا وَكَذَا. ـــ مِن أَيْن أَتَيْت بِهَذَا الْتَّفْسِيْر ؟ . إِن
الْنَّاس يَتَنَاقَلُوْن كَلَامُك وَيَذَّكَّرُوْن مَا قُلْتُه لَك. تُفَاجَأ
الْأُسْتَاذ بِهَذِه الْعَقْلِيَّة الْطُّفُوْلِيَّة فِي الْحُصُوْل عَلَى
الْأَدِلَّة فَصَمَت لَعَل الْصَّمْت يَكُوْن أَخَف وَطْأَة عَلَيْه مِن الْخَوْض
فِي هَذِه الْمُنَاقَشَة الْعَقْيِمَة . هَكَذَا تَقْتُل كُل نَسَمَة إِبْدَاعِيَّة
فِي وَطَنِنَا الْعَرَبِي فَقَد أُحِيْل إِلَى الْعَمَل فِي قِسْم الْأَرْشِيف
بِرَاتب زَهِيْد لَا يُسَد رَمَق عِيَالِه، خَسِرَت الْمَدْرَسَة رَجُلا ذَا فِكْر
وَاع يَعْمَل لَيْل نَهَار لِبِنَاء مُسْتَقْبَل مُشْرِق مِن خِلَال تَعْلِيْم
طِلَابِه كُل مَا هُو مُفِيْد وَجَمِيْل، يَرْقَى بِعَقْلِيَّة الْأَفْرَاد لِمَا
هُو خَيْر لَهُم . وَفِي يَوْم الِاثْنَيْن أَفَرِّج عَنْه . فَاسْتَقْبَلَتْه
الْأَسِرَّة بِالْدُّمُوْع والزَغَاريد . تُوَجَّه الْطُّلاب وَالزُّمَلاء إِلَى
مَنْزِلِه لِلْسَّلام عَلَيْه وَتَجْدِيْد الْعَهْد لِلْمُضِي عَلَى نَهْجِه .
بَادَرَه أَحَد الْزُّمَلاء سَائِلَا : يَا أُسْتَاذ عَلِي هَل أَنْت نَادِم عَلَى
مَا كَتَبْت ؟ فَأَجَابَه وَالْبَسْمَة تَمْلَئ شَفَتَيْه : طَبْعَا ، لَا وَلَو
عَاد الْزَّمَن بِنَا إِلَى الْوَرَاء لَكَتَبْت مَا هُو أَفْضَل وَأَقْوَى .
وَضَع يَدَه فِي جَيْبِه وَسَلَّمَه مَقْطُوعَة نَثْرِيَّة كَتَبَهَا فِي
الْسِّجْن لِيَقْرَأَهَا أَمَام الْحَاضِرِيْن فَانْبَرَى مُتَفَوِّها : مِن
الْمَاء ... .كَلِمَات رِمَالِك الْصَفْرَاء قَطَرَات مَاء بَارِد، تُعَانِق
الْمَوْتَى يَوْمَا بَعْد يَوْم، تُوْحِي لِلْشَفَق الْأَحْمَر فِي شَفَتَيْك
نَسِيْم الْغَرَام، مِن نَافُوْرَة الْحَنَان الْمُهَاجِر،تَرْقُص الْأَلْحَان
عَبْر رُفَاتَه وَتُدَاعِب الْسَّمَاء بَحْرَا أَزْرَق الْلَّوْن أَم سِحْرَا مِن
عَيْنَيْك أَم لَوْن الْجَرِيْح الْمُلْقَى عِنْد بَوَّابَة الْإِبْدَاع ،
دِمَاءَه تَخْبُو بَيْن شَفَتَيْك كَرِيْشَة حَمْرَاء مَازَالَت تَصَبُّغ الْوَرْد
وَالْأَشْوَاك ، الْبَسْمَة وَالْأَحْزَان ، دَقَائِق الْشَّوْق ذَابَت
وَالْخَفَقَان مَسْرَح يُدَاعِب الْأَدْوَار وَأَنْت تُبْقِي خَيَال ، يَرَاك فِي
الْطَّعَام ، يَرَاك فِي الْشَّرَاب ، يَرَاك وَلَكِن لَا يَدْرِي أَيْن يَرَاك
إِلَا أَنَّه يَرَاك ، أَتَذْكُرِيْن فِي الْجَامِعَة عِنْد تِلْك الْشَّجَرَة ،
دُمُوعِك تَتَرَقْرَق فِي أَرْوَاق عَيْن تُحَاكِي تُدَغْدِغ مَا بَقِى مِن أَمَل
فِي الْحَدِيْقَة الْحَزِيِنَة ، لَحَظَات يُحِس فِيْهَا الْإِنْسَان أَنَّه
إِنْسَان وَلَه فِي هَذِه الْقَرْيَة كَيْان ، آَه مَا أَحْلَاك وَمَا أَحْلَى
نَظَرَاتِك الْجَمِيْلَة ، نَظَرَات تُحَمِّل فِي طَيَّاتِهَا أَلَم الَفَرُاق فِي
عَالَم تَقْتُل فِيْه الْكَلِمَة وَيُمَزِّق فِيْه الْشُّعُوْر كَأَنَّنَا نَعِيْش
فِي الْلَّت شُعُور ، مَصْلُوْبَة أَفْكَار مِن خَّفَرُوَا الْتَارِيْخ فِي
الْلَّت شُعُور ، مُدْمِية أَنَامِل الْشَوْق جِرْجَا فِي الْلَّت شُعُور ،
مُكَهْرِبَة أَسْوَار قَرْيَتِنَا فِي الْلَّت شُعُور ، كَأَنَّك تَرَيِن فِي
صَدَفَاتِهَا امْرَأَة بَيْضَاء نَاعِمَة تَتَمَشَّى بَيْن خُيُوْط الْشَّمْس مِن
حِيْن إِلَى حِيْن ... أَنْهَى زَمِيْلُه قِرَاءَتِهَا وَعُيُوْنُه تَنْظُر إِلَى
الْأُسْتَاذ عَلَي وَهُو يُغَادِر الْحُضُوْر مُيمّما صَوْب الْحَدِيقَة ، يَنْظُر
إِلَى الْأَمَام بِشُمُوْخ وَكِبْرِيَاء مُطْلَقا ابْتِسَامَة عَرِيْضَة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق